د.أحمد خالد توفيق |
ليرحمه الله لأنه قد توفاه قطعًا.. عم (أبو اليزيد) البواب النوبي العجوز طيب القلب، وغرفته الضيقة العامرة بالبراغيث تحت سلم حضانة (حماية الأسرة) بطنطا، وغذاؤه الذي لا يتغير.. رغيف الخبز الأسمر والباذنجان الأسود المخلل الذي كنت أشعر دومًا بأنه جزء من بشرته هو نفسه.. أذكر بجلاء كيف أنقذ عم (أبو اليزيد) حياتي وحياة خمسة من زملاء الحضانة عندما أخفانا في غرفته في ذلك اليوم من صيف 1967 عندما جن جنون (عبد الناصر) فأرسل رجاله يسحبون الدم من بطون الأطفال. يومها جرنا عم (أبو اليزيد) إلى غرفته ونظر حوله بحذر ثم قال لنا هامسًا بلهجته النوبية الساحرة وبياض عينيه الأصفر يلتمع:
"إنتي تقعدي ساكتة لاهسن عبد الناصر ياخد دم من بطنك"
وهكذا جلسنا صامتين في غرفته ونحن نتخيل ما يحدث للتعساء الذين يصرخون في الخارج، بينما رجال عبد الناصر يقيدونهم ويدسون الخراطيم ماصة الدماء في أحشائهم.. وأكلنا الكثير من الباذنجان الأسود على سبيل تزجية الوقت، وبعد ساعة رأيت أمي تركض إلى الحضانة.. لم أرها قط بهذا المنظر المبعثر المذعور المنهك.. نقدت الرجل الطيب بعض المال ثم أخذتني وراحت تجتاز الشوارع الخلفية حتى لا تقابل مصاصي الدماء الحكوميين. وفي الطريق إلى الدار رأيت النسوة يركضن في كل صوب صارخات وعلى وجوههن ذات التعبير الذي رأيته على وجه أمي.. شرحت لي أمي كيف أن هناك أزمة في الدماء بعد هزيمة جيشنا في سيناء، وكيف أن عبد الناصر أصدر أوامره لرجاله أن يمروا على المدارس ليسحبوا الدماء من بطون الأطفال.
فيما بعد عرفت أننا كنا في ذروة انعدام الوزن بعد ما فقدنا ثقتنا في النسر الأسطوري الجميل الذي جاء من أعماق التاريخ ليهزم الاستعمار ويوحد العرب... وكنا على استعداد لتصديق أي شيء مهما كان سخيفًا.. إن هذه الإشاعة لا تصمد لأي تحليل متأن.. فليس الأطفال بالمصدر الأفضل للدماء، ولو كان هذا صحيحًا فالدماء لا تؤخذ من البطون.. لكنها إشاعة صممت ببراعة لتجمع بين البشاعة (دم يؤخذ من البطن) وإلهاب المشاعر (لا أحد يطيق إيذاء الأطفال)... إشاعة صممت كي تحدث هياجًا شعبيًا تصعب السيطرة عليه.
كان هذا أول عهدي بالإشاعات.. وفيما بعد قرأت كتاب صلاح نصر عن الحرب النفسية وسيكولوجية الإشاعة، فوجدت أن هذه الإشاعة من أبرع ما تم تصميمه لبلد يهوى تصديق كل شيء.
كتاب صلاح نصر ذاته كان مصدر رعب لا يوصف لنا لأن السلطة غضبت على الرجل، وصار من يقتني كتابه عميلاً أو -على أقل تقدير- وغدًا.. أبي لم يرد التخلص من هذا الكتاب الثمين لهذا أخفاه تحت الفراش.. وعشنا أعوامًا نتوقع أن يقتحم رجال المباحث البيت ليخرجوا الكتاب من مكانه، ثم يوقفونا صفًا إلى الحائط ويفرغوا فينا الرصاص.
أعتقد أنك قد فهمت الآن موضوع المقال باختصار شديد.. طالما سألوني عن مستقبل أدب الرعب في مصر، فكنت أقول بثقة: لا مستقبل له.. ليس الآن.. نحتاج إلى مائة عام على الأقل ودرجة معينة من الترف الفكري والاجتماعي والحضاري حتى نقرر أن نرعب أنفسنا بأنفسنا.. ليس هذا كلامي بل كلام عميد كتاب الرعب في القرن العشرين هـ.ب.لافكرافت.. يقول الرجل في مقال شهير جدًا كتبه عام 1926 ويحمل اسم (الرعب الخوارقي في الأدب): "يحتاج تذوق أدب الرعب إلى قدرة تخيلية عالية عند القارئ.. بالإضافة إلى قدرته على التجرد مما يحيط به من مؤثرات". كانت أمريكا مشغولة ببناء نفسها عندما كتب لافكرافت، لهذا عاش الرجل حياة ضنكًا ومات فقيرًا. نفس الشيء ينطبق على إدجار آلان بو مواطنه الذي كان يغري القط بالنوم على قدمي زوجته المريضة لتدفئتها.. إن محاولة قراءة لافكرافت وقت الظهيرة وسط زحام المواصلات تجعلك تعتقد أن هذا الرجل مخبول أو (رايق) لدرجة تثير الغيظ.
أذكر أن فيلم (حرب الكواكب) -حروب النجم إذا شئت الدقة- لم ينجح في مصر-.. وقتها كتب الناقد الراحل الرائع سامي السلاموني: الفيلم يدأ بعبارة تقول (حدث ذات مرة في زمن بعيد في مجرة بعيدة.. بعيدة).. هكذا فقد الفيلم أية أرضية له لدى المشاهد المصري الذي لا يستطيع السير في شارع سليمان دون ان ينكسر عنقه.. فكيف يبالي بما يحدث في مجرة بعيدة في زمن بعيد؟.
الناس تعشق أدب الرعب لتتطهر من مخاوفها الخاصة.. أن تعيش أفظع التجارب بشكل مقنن لتزداد ثقة في قدرتها على البقاء.. باختصار أدب الرعب هو بروفة موت دائمة.
لماذا يبحث المرء عن بروفة موت وهمية إذا كان فعلاً في بروفة موت واقعية دائمة؟.. ماذا عن محاولة عبور الشارع وسط الميكروباصات المجنونة بسائقيها (المسجلين خطر) التي تحاول أن تدهم أكبر عدد من المارة؟.. ماذا عن الوثب من الأتوبيس؟.. ولو كنت تملك سيارة فماذا عن لجنة المرور ومحاولتك ألا تنظر أكثر من اللازم إلى الباشا كي لا يأمرك: إركن.. ماذا عن شهادة المخالفات لو وجدت أن عليك ثلاثة آلاف جنيهات بسبب استعمال آلة التنبيه؟.. هل يمكن القيادة في مصر من دون آلة تنبيه؟.. كيف سمعوا آلة تنبيهك أنت بالذات وسط هذه الضوضاء؟.
ماذا عن فاتورة الكهرباء القادمة؟.. وماذا عن فاتورة الهاتف القادمة؟.. ماذا تفعله لو وجدت أنهم يطالبونك بخمسين ألفًا من الجنيهات لاستخدامك خدمة زيرو تسعمائة أو مكالمات موبايل لم تجرها؟.. هل تتركهم (يشيلوا العدة )؟.. وماذا عن إخطار جلسة المحكمة الذي لم تتسلمه وقد يؤدي بك لدخول السجن دون أن تعرف السبب؟.
ثم ماذا عن أساسات العمارة التي دفعت دم قلبك للحصول على شقة فيها؟.. هل كان المقاول نصابًا؟... هل تتحمل الزلزال القادم؟.. هل تسقط فجأة من دون زلزال لتجد نفسك في الشارع تتسول أو تجد نفسك تحت الأنقاض وتطلع في نشرة التاسعة؟.
وماذا عن مدخراتك لو كنت تملك شيئًا؟.. ما هو القرار الجديد لمجموعة الاقتصاديين الهواة الذين يجتمعون كل صباح باحثين عن وسيلة جديدة لخراب بيتك؟.. لقد صار كل جنيه في جيبك أربعين قرشًا خلال عامين فهل تتحول الأربعون قرشًا إلى نكلة؟.. ماذا عن راتبك؟.. هل ستظل تتقاضاه أم يقول لك عم جابر الصراف: (اتكل على الله) يومًا ما؟.. واللحم؟.. كيف يمكن أن تشتري اللحم يوم يصير ثمنه ستون جنيهًا؟، وهذا سيحدث بإذن واحد أحد لأنه ما من أحد يبالي بمصائبك سواك.
ماذا عن كوب الماء الذي تشربه والهواء الملوث الذي تتنفسه؟.. ماذا عن الفراخ المحشوة بالهرمونات؟.. هل لعبة الجينات تدور الآن في كبدك لتتكون تلك الخلية المحندقة الشقية التي تصر على ألا تموت؟.. هكذا يولد السرطان ببطء لكن بثقة.. كل معارفك وجدوا ذلك الورم في اكبادهم ويبدو أن من لا يجد سرطانًا في كبده اليوم إنسان محظوظ فعلاً.
وماذا عن الكتابة مع المشاغب إبراهيم عيسى في مكان واحد؟.. كنت دائمًا أنبهر بشجاعة هذا الرجل لكني أجد فيه كذلك تضخمًا لغريزة الفناء الفرويدية.. تشعر طول الوقت بأنه يتوق إلى أن يتم تدميره وأن يعود لحالة ذرة الكربون المسالمة.. في كتاب (عمائم وخناجر) وصل الأمر إلى أنه وصف مكانه بدقة في بناية روز اليوسف كي يسهل الأمر على من يريد ذبحه.. طيب هو دماغه كده.. لكن ما ذنبك أنت؟.
ماذا عن زوار الفجر؟.. وماذا عن صوت البوكس لو وقف تحت شرفتك في الرابعة صباحًا وجاء (عادل بيه) يقول لزوجتك إنهم يريدونك لمدة نصف ساعة لا أكثر.. "مجرد إجراءات روتينية".. ثم تذهب فلا يعرف لك الذباب الأزرق طريقًا؟.. ترى هل تتحمل التعليق على عروسة والنفخ؟.. يمكنك أن ترحم نفسك وتعترف ولكن بأي شيء بالضبط؟.
ماذا عن ابنتك العائدة من الكلية وقد بدأ الظلام يحل؟.. ماذا عن ابنك وتلك الشلة المريبة تحيط به؟.. كم من الوقت يلزم قبل أن يقدم له أحدهم أول جرعة من البرشام؟.. وامتحان الثانوية العامة.. هل هو من المنهج أم خارجه؟.. الامتحان من المنهج يبشر بتحويله إلى حمار، والامتحان خارج المنهج يهدد بألا يجد كلية تقبله إلا (معهد الدراسات المحلية التناظرية التعاونية). وماذا عن جلوسه في البيت بلا عمل بعد التخرج؟.. ينظر لك بعينين متهمتين يطالبك بعمل شيء.. مش خلفتونا؟.. يبقى تتصرفوا.
ماذا عن أزمة المياه واتفاقيات حوض النيل؟.. ماذا عن قناة سويس إسرائيل البديلة؟.. ماذا عن ثقب الأوزون والتسخين الحراري؟.
الحقيقة أن الناس في مصر محظوظون.. فهم ليسوا بحاجة إلى قراءة أدب الرعب لممارسة بروفة الموت.. إن الرعب ضيف دائم معهم خاصة أسوأ أنواعه: الخوف من الغد.. وكلما أمعنت النظر في المسألة ازداد اقتناعي بأن ستيفن كنج واحد فاضي.. وأن لافكرافت راجل (موش تمام). ليرحم الله الجميع.
د.أحمد خالد توفيق
2 التعليقات:
إن الرعب ضيف دائم معهم خاصة أسوأ أنواعه: الخوف من الغد..
إنه، بالفعل أسوأ أنواع الرعب، ربما لدى الجميع، وليس أهل مِصر فقط :)
إرسال تعليق